عملية "توسعة النفوذ" الإسرائيلية.. قراءة في الأسباب والمآلات!

أحمد عبد الرحمن

كاتب في الشأن السياسي والعسكري

طفا على سطح التصريحات العسكرية الإسرائيلية في الفترة الأخيرة مصطلح جديد، بدا بالنسبة إلى البعض شبيهاً بجملة من المصطلحات التي دأبت "الدولة" العبرية على استخدامها أثناء الحرب على قطاع غزة، والتي تستمر بفصولها القاسية للشهر التاسع عشر على التوالي، وإن كانت قد شهدت هدوءاً نسبياً إبّان التوصّل إلى اتفاق التهدئة في منتصف كانون الثاني /يناير الماضي، والذي لم يلبث أن انهار بعد ذلك بشهرين تقريباً.  

أحد هذه المصطلحات الجديدة، والذي صدر على لسان وزير حرب العدو "يسرائيل كاتس "، وقادة عسكريين آخرين كان "توسعة النفوذ "، أي ما يعني توسعة الأماكن التي سبق أن سيطر عليها "جيش" الاحتلال في فترة ما قبل التهدئة، والتي وصلت في بعض المناطق حينذاك إلى ما نسبته 70% كما كان الوضع في مدينة رفح على سبيل المثال، وفي مناطق أخرى وصلت إلى 100% كما حدث في بلدة بيت حانون، أقصى شمال شرق القطاع.

في المرحلة الثانية من العمليات العسكرية التي دشّنتها "إسرائيل" قبل ثلاثة أسابيع تقريباً بعملية قصف جوّي مكثّف، أدت إلى سقوط أكثر من أربعمئة شهيد خلال ليلة واحدة، وهو العدد الذي ارتفع بشكل قياسي خلال الأيام التي تلت تلك الغارات، بدأ "جيش" الاحتلال بتوسيع مناطق نفوذه إلى مستويات جديدة، لم تكن معهودة من قبل، حيث وصلت في جزء منها كما هي الحال في مدينة رفح الحدودية مع مصر إلى السيطرة الكاملة على كل أنحاء المدينة، بعد أن ارتكب مجازر مروّعة بحق المدنيين الذين حاصرهم في حي تل السلطان، إلى جانب إعدامه طواقم الإسعاف والدفاع المدني الذين حاولوا تقديم يد المساعدة للسكّان الهاربين من الجحيم، في جريمة موصوفة ضرب بها كعادته عرض الحائط بكل القوانين الإنسانية، في ظل صمت عربي وعالمي فاضح وغير مسبوق.

في رفح تحديداً، وهي صغرى مدن القطاع بمساحة إجمالية لا تتجاوز الـ 67كلم، تكتسب السيطرة الإسرائيلية أهمية استثنائية، إذ إن هذه المدينة تحظى بمواصفات خاصة جعلتها تتميّز عن باقي محافظات القطاع، من هذه المواصفات أنها تضم بين جنباتها المعبر التجاري الوحيد الذي لا يخضع لسيطرة مباشرة من "جيش "الاحتلال، وهي بذلك تمثّل شريان الإمداد الأساسي والرئيسي لكل ما تحتاجه غزة من غذاء ودواء وبضائع مختلفة، هذا بالإضافة إلى أن هذا المعبر بشقّه المدني يُعدّ الطريق الإجباري الأوحد لسفر الفلسطينيين إلى الخارج للعلاج أو الدراسة أو غير ذلك. إلى جانب ذلك، فرفح تملك حدوداً بريّة بطول 14كلم تقريباً مع الجارة الكبرى مصر، وهذه الحدود ساهمت في العديد من المرات في التخفيف من أزمات القطاع المتلاحقة، حتى في تلك الفترة التي أُغلق فيها معبر رفح من قِبل الجانب المصري لدواعٍ مختلفة.  

بعيداً من رفح، وفي اتجاه الشمال الغزّي، يقوم "جيش" الاحتلال حالياً بتنفيذ خطة مشابهة، وإن كانت بعمق مختلف نوعاً ما، إذ يعمل منذ أيام عدة على توسيع المنطقة العازلة الممتدة من الشرق في اتجاه الغرب بعمق يقترب من 1.5كلم، وقد اختار شرق منطقة الشجاعية الواقعة شرق مدينة غزة لتكون بداية لهذه التوسعة شديدة الخطورة، والتي من المرشّح أن تمتد تدريجياً لتبتلع كل الشريط الحدودي على العمق المُشار إليه أعلاه، قد تبدأ من منطقة بيت لاهيا أقصى شمال غرب القطاع، صعوداً في اتجاه الشرق حيث بلدة بيت حانون التي ستدخل كل مساحتها ضمن هذا الشريط، ومن ثم الاتجاه جنوباً بمحاذاة باقي أجزاء مدينة غزة الشرقية، مروراً بالمنطقة الوسطى، وصولاً إلى الأجزاء الشرقية لمدينة خان يونس، جنوب القطاع.

هذه المساحات، في حال تم تنفيذ كل مراحل خطة "توسعة النفوذ "، ستساهم في تقليص مساحة القطاع الإجمالية إلى أقل من النصف، إذ إن توسعة الشريط الحدودي تحت ذريعة إنشاء ما تُسمّى بـ"المنطقة الآمنة" ستقضم ما مساحته 75 كلم تقريباً من أراضي القطاع، مضافاً إليها مساحة مدينة رفح بالكامل، إلى جانب المحاور التي تم إنجاز جزء منها مثل "محور نتساريم"، الفاصل بين مدينة غزة والمنطقة الوسطى على سبيل المثال، وجاري العمل حالياً على إنشاء "محور موراج" الذي يفصل بدوره بين مدينتي رفح وخان يونس، ومن المتوقّع أن يسعى العدو إلى إنشاء محورين إضافيين في مرحلة قادمة هما "محور كيسوفيم " الفاصل بين مدينة خان يونس والمنطقة الوسطى، و"محور مفلاسيم" الفاصل بين مدينة غزة ومحافظة الشمال، والذي سبق له أن بدأ في إنشائه إبّان العملية العسكرية التي استهدفت معسكر جباليا ومدينة بيت لاهيا وبيت حانون قبل دخول اتفاق التهدئة حيّز التنفيذ.  

كل هذه المساحات المقتطعة تحت ذرائع مختلفة، والتي يمكن أن تتجاوز مساحتها نحو 60% من مساحة القطاع، ستحوّل حياة الفلسطينيين إلى جحيم حقيقي، إذ سيُحشرون في مناطق صغيرة نسبياً، ومفصولة عن بعضها البعض بحواجز عسكرية كما كانت الحال قبل الانسحاب الإسرائيلي في العام 2005، مع تشديد الحصار المطبق عليهم من كل اتجاه، هذا في حال أوقفت

"إسرائيل" عمليات الإبادة الجماعية التي تستهدفهم صباح مساء.

على كل حال، وفي ظل هذا الواقع المليء بالتحدّيات التي على الفلسطينيين مواجهتها والتصدّي لها، دعونا نشير إلى جملة من الأسباب التي نراها تقف وراء هذه السياسة الصهيونية الجديدة، والتي كانت مُتوقّعة ومُنتظرة قياساً على العقبات التي كان يضعها الجانب الإسرائيلي وما زال في وجه إيقاف الحرب، ورغبته الواضحة والأكيدة في استمرارها وتواصل فصولها الدموية والقاسية، مع التنويه في هذا الإطار إلى أن ما يجري ليس بالضرورة أن يكون رداً على هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر المجيد، بل يبدو أنه جاء نتيجة خطة طويلة المدى وُضعت قبل الهجوم بفترة زمنية طويلة، وكانت تنتظر فقط عود الثقاب الذي يشعل فتيلها لتنطلق بكل هذه القسوة والجبروت.  

أولاً، الهاجس الأمني

على الدوام كان الهاجس الأمني لـ"الدولة" العبرية محرّكاً أساسياً للكثير من خطواتها العدوانية تجاه قطاع غزة، كما هي الحال بالنسبة إلى الضفة الغربية المحتلة، وهو ما ينسحب أيضاً على ما جرى عديد المرّات في جغرافيا أخرى من المنطقة مثل لبنان وسوريا وغيرهما.

في ما يتعلّق بقطاع غزة على وجه الخصوص، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية- قديمها وجديدها- كانت تعتمد على سياسة إطالة أمد التوتّرات معه، إلى جانب شن الكثير من العمليات العدوانية ضده، في محاولة لإبقاء المقاومة فيه ضعيفة، وفي حالة دفاع عن النفس، إذ إن المؤسستين السياسية والعسكرية في "إسرائيل" طالما اعتقدتا بأن القطاع يشكّل تهديداً مستداماً على أمنها القومي، وأنه يجب التخلّص من هذا التهديد مرة واحدة وللأبد، وهذا ما تحاول "إسرائيل" القيام به الآن، مستغلّة الكثير من المتغيّرات سواء على صعيد المنطقة أو العالم.  

ثانياً، التغيير الديمغرافي

تشير الكثير من الدراسات الإسرائيلية إلى أن "الدولة" تواجه خطراً ديمغرافياً محدقاً، لا سيّما في ما يتعلّق بزيادة نسبة السكّان الفلسطينيين في مختلف الأراضي الفلسطينية، وهو ما يشكّل تهديداً وجودياً للسكّان اليهود، الذين على الرغم من كل حملات الهجرة غير الشرعية التي جاءت بهم من أصقاع الأرض المختلفة ما زالوا يشعرون بعقدة التكافؤ الديمغرافي أمام أصحاب الأرض الحقيقيين من الفلسطينيين، وبالتالي وبما أن نسبة السكان في غزة بلغت مستوى قياسياً بالنظر إلى صِغر المساحة التي يقيمون عليها، وإمكانية أن ينفجروا في يوم ما في وجه "الدولة" التي تحتل باقي أرضهم، كما حدث إبّان مسيرات العودة وغيرها، فإن "دولة" الاحتلال تسعى إلى تقليص هذا العدد إلى حدوده الدنيا، سواء من خلال قتل أكبر عدد ممكن منه، أو من خلال دفع جزء رئيسي من السكان إلى الهجرة القسرية خارج فلسطين، وهي تستخدم في سبيل ذلك كل الأدوات غير المشروعة، مثل الحصار، والتدمير، والتجويع، وأخيراً وليس آخراً تقليص المساحة التي يسكنون عليها بصورة قياسية وغير مسبوقة.

ثالثاً، الضغط التفاوضي

خلال الشهور الخمسة عشر التي استغرقتها المرحلة الأولى من العدوان، والتي شهدت جولات متعددة للتوصل إلى وقف إطلاق النار، استخدمت "إسرائيل" الكثير من الوسائل والأدوات القذرة للضغط على المقاومة لتقديم تنازلات في ملفات شائكة ومعقدة، كان على رأسها قضية أسرى العدو لدى المقاومة، إلى جانب القضايا الأخرى التي يعرفها الجميع.

اليوم، بعد تنصّل الاحتلال من اتفاق التهدئة، ومحاولته تحقيق إنجاز لافت من دون أن يقدّم ما عليه من التزامات، يبدو خيار السيطرة على مزيد من الأرض خياراً رابحاً من وجهة نظر القادة الإسرائيليين، إذ يعتقدون أن مزيداً من الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة من خلال تصعيد عمليات التدمير والتخريب والترحيل سيؤدي إلى إبداء المقاومة مرونة أكبر في المفاوضات التي تجري بين الفينة والأخرى، بما يؤدي في نهاية المشوار إلى فرض كامل الرؤية الإسرائيلية، وتحقيق جملة الأهداف التي تم رفعها في بداية الحرب.  

رابعاً، عودة الاستيطان

في ظل سيطرة قوى اليمين المتطرّف في "إسرائيل" على مقاليد الحكم، وفي ظل رغبتهم المعلنة بعودة سياسة الاستيطان إلى قطاع غزة بعد الاندحار عنه قبل عشرين سنة تقريباً، تبدو الفرصة كما يعتقدون مواتية لتحقيق هذا الحلم الذي لطالما راود قادة هذا التيار الفاشي والعنصري، والذين قام العديد منهم بزيارة أماكن المستوطنات القديمة في أراضي القطاع، وباتوا يعلنون عن أسماء ومواقع المستوطنات التي ينوون إقامتها في حال سمحت الظروف بذلك.

وبالتالي، وفي ضوء تماهي رئيس وزراء العدو مع التيار الديني المتطرف في "إسرائيل"، والذي يشكّل له حبل نجاة من المحاكمة بتهم الفساد، فإنه ربما يسعى إلى ما يمكن تسميته بـ "تهيئة الأرض " لإقامة تلك المستوطنات في أوقات لاحقة، في حال نجحت الجهود المبذولة من أجل ذلك، وفي المقدمة منها الاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي القطاع.

على صعيد مآلات ما يجري من عمليات في هذا الإطار، فإنه من غير المحتمل أن ينجح هذا المخطط الصهيوني المدعوم أميركياً في الوصول إلى النتائج المرجوّة منه، إذ إنه يُواجه بمروحة واسعة من العقبات والتحدّيات، في المقدمة منها إصرار الشعب الفلسطيني على التمسّك بأرضه مهما كلّف ذلك من ثمن، إلى جانب رفض معظم دول العالم له، وإن كان هذا الرفض حتى هذه اللحظة ما زال محتشماً وخجولاً.

صحيح أن ما يبذله العدو في سبيل إنجاح هذا المخطط يمثّل خطورة كبيرة على المشروع الوطني الفلسطيني برمّته، وصحيح أن الظروف قد تبدو مواتية له لتحقيق بعض النجاح النسبي على الأقل، لكننا على قناعة تامة، بأن كل هذه المخططات ستفشل من دون أدنى شك، وستسقط تحت أقدام هذا الشعب العنيد، الذي ما زال يقدّم دروساً في الصبر والصمود، رغم الخذلان والنسيان

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023