عن غزة ... كيف قاتلت فصمدت ؟

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

كثير هو الحبر الذي أسله " طوفان الأقصى " في وادي غزة، حتى أن آخره يكاد ينسي أوله. وكثيرة هي زوايا النظر، ومنطلقات البحث والدراسة والمراجعة واستخلاص العبر من هذا الدرس القاسي، والحدث الذي قلب رأس الشرق الأوسط على عقبه، حتى أنه نسبت له ــ للطوفان ــ أحداث ونتائج؛ هو منها براء، براءة الذئب من دم بن يعقوب عليه السلام. وقد اختلف الكتاب حول هذه الحرب الطاحنة مذاهب شتى؛ انطلاقاً من معايير الجدوى والأكلاف، والمفاسد والمصالح، وسلامة تقدير المآلات من عدمه. إلّا أن الجميع يكاد يجمع على أن غزة وما فيها ومن فيها من شعب ومقاومة، لم يتمنو التحرير فقط، وإنما عملوا له وتجهزوا ليومه، وأنهم كانوا مستعدين لدفع الأكلاف، وقد دفعوا، وأنهم نالوا شرف المحاولة؛ فكانوا أصحاب ( الأولة )، وأصحاب الأولة لا يسبقون. يجمع المنصفون أن غزة الشعب، وغزة المقاومة؛ بكل تلاوينها، قررت، وبنت، وأقدمت، ثم حاولت فنجحت. وأنا ما حصل بعد الطوفان من إجرام وقتل وتدمير، لا يُبرر بما قامت به المقاومة من فعل وتعرض على العدو، ونما يمكن فهمه في سياق أن الكيان المؤقت، رأي في مثل هذه التجربة أنموذج ملهم يمكن حال نجاحه أن يتكرر، لذلك كان لابد من القضاءعليه ، ورفع أكلاف التفيكر في تقليده أو السير على نهجه؛ فكان القتل والدمار؛ في غزة ثم في الضفة الغربية . وهنا لابد من الإشارة قبل البدء في أصل موضوع هذه الورقة إلى أن كل من يدّعون (الحكمة) و (بعد النظر) في تحليلاتهم وقراءتهم واستنتاجاتهم التي جاءت بعد أشهر الحرب الطويلة ـــ مع كل الاحترام والتقدير لهم ولغيرهم ـــ يصدق فيهم ما يقال حول إدعاء الحكمة بأثر رجعي!! فهم يحللون ويقدرون ويفسرون بعد ما رأوا ما يشاهدون من دماء وقتل ودمار، فتتعالى أصواتهم المستنكرة لأخذ مثل هذا القرار ـ قرار الحرب ـ ويتناسون أن أصحاب القرار ـــ ومعظمهم، إن لم يكن كلهم الآن في دائر الحق، شهداء سعداء، في حواصل طير يسرحون في الجنة حيث يشاؤون ـــ لو كان في تقديرهم أن نتيجة مثل هذا القرار ستؤدي إلى مثل هذه النتجية، لما أقدموا عليه، ولما اتخذوه، فهم ـــ نحسبهم وحسيبهم الله ـ من رجاحة العقل، والشعور بالمسؤولية، ما يجعل كاتب هذه السطور يجزم أنهم ما كانوا ليأخذوا مثل هذا القرار، لو كان عندهم تصور أن النتجية سوف تكون على ما كانته الآن، وفي هذا حديث يطول، ويختلط فيه النفسي بالمهني، والسياسي بالعسكري، والوجداني بالعقلي، لذلك سنريح القراء الكرام منه، ولن نخوض فيه. 

         لن تناقش هذه المقالة اختلاف وجهات النظر حول حذه الحرب، كما أنها لن تتناولها بالبحث والتدقيق أو المراجعة التعبوية والسياسية، ولا ما حققته من إنجازات أو غيرته من معادلات، فهذا الأمر لم يحن وقته، ولا أزف زمانه. إن هذه الورقة ستحاول ـ وفق فهم الكاتب وتحليله ـ أن تستعرض أهم الأمور التي تقف خلف هذا الصمود الأسطوري لغزة وما فيها ومن فيها، أمام آلية القتل الإقليمية والدولية، التي يظهر فعلها في قصف الطائرات والدبابات، وتجريف الجرافات الصهيونية، التي تثير غباراً يستتر خلفه المقصرون، ويخفي خلفه فعل الفاعلين الحقيقين، من عربان وأعجميين . 

لماذا صمدت غزة بشعبها ومقاومتها في أطول حرب خاضها الكيان المؤقت ضد عدو؟ 

بعيداً عن الحديث المعنوي، أو الديني التعبوي ــــ على أهميته طبعاًـــ كون الخوض فيه بحاجة إلى أهل اختصاص ودراية، بعيداً عن كل هذا فإن ما يقف خلف هذا الصمود الأسطوري، بعد فضل الله ومعيته ورأفته، يمكن أن تسطر فيه كتب ومجلدات، ولكن سنكتفي بأهم ما يعتقد كاتب هذه السطور أنها هي المحركات والبواعث والأسباب والمفاتيح الرئيسية التي يمكن أن تساعد في فهم هذا الموقف الذي أحار العقول، وخرق قواعد الفهم، أهم هذه الأسباب يمكن أن يختصر بالآتي ــــ نحن هنا نوصف ولا نطلق أحكاماً ـــ: 

  1. قيادة مستعدة لأخذ القرار وتحمل الأكلاف : 

فأن تقاتل بعد حصار دام ما لا يقل عن الخمسة عشرة سنة، بإمكانيات لا تكاد تذكر بالمقارنة لما لدى عدوك من قدرات وإمكنيات، جعلته في المرتبة الخامسة بين جيوش العالم، أن تقرر، وتقدم، وتتحمل الأكلاف؛ فهذا لعمري أهم ما يفسر الصمود. 

  1. وضوح المهمة : 

فلا يمكن أن تصمد في مهمة لا تعرفها، ووظيفة لا تتقن إنجازها، فحتى تُقدّر ما هو مطلوب للصمود، لابد إبتداءً من أن يكون هناك وضوح للمهمة، وفهم للتكليف؛ خاصة عند العصبة الضيقة صاحبة القرار، أو تلك الملقى على عاتقها التنفيذ والإنجاز . 

  1. الحاضنة الشعبية : 

فهي بعد الله المدد، وهي التي ستتلقى ( حم ) السكين، فإن لم تكن حاضنة لك، متقبلة لسلوكك، مؤازرة لفعلك، فسينقطع نفسك في الشوط الأول، وقبل بلوغ خط النهاية، ومفتاح تفهم وقبول الحواضن الشعبيه هو: تعرفك عليها في الرخاء، للتتعرف عليك في الشدة . 

  1. التعلم أثناء الأداء : 

وهذا مشاهد، مرئي لكل مراقب، فالمقاومون المجاهدون، يبتكرون وسائط قتال مما يتركه العدو، فيكيفونها لتخدم مهة، ويبتكرون من طرق العمل ما يجعلهم في بيت حانون يكررون الكمين تلو الكمين في بقعة جغرافية ضيقة، يفترض المنطق أن تغيير نمط العمل فيها من الصعوبة بمكان، إلّا أنهم ينجحون في الفعل، وهذا دليل على تغيير النمط، الأمر الذي يدل على التعلم واستخلاص العبر أثناء القتال، وهو ــــ التعلم أثناء الأداء ـــ من أهم وأفضل وأنجع أساليب التعلم واكتساب الخبرات . 

  1. التكيف والمرونة :

فلولا هذا التكيف، وتلك المرونة ــ طبعاً بعد ستر الله وفضله ــ لما بقي قادة من الصف الأول يقودون المعارك، ويخططون للمواجهات، ولما نجحت الإجراءات التي يقوم بها المقاومون، فقد تكيفت هذه الثلة المجاهدة مع الدمار، فاتخذت منه ساتراً، ومع باطن الأرض، فتدرعت بها، وقاتلت مشاة العدو بمهارة، فلما دفع ـ العدو ـ بدروعه، تصدوا لها بنجاعة وبطولة. 

  1. الثقة المتبادلة بين القادة والجنود، على مختلف مستوياتهم : 

وهي عماد النجاح، وسبب التفوق، ففي مثل بيئات القتال هذه التي تصعب فيها القيادة والسيطرة المركزية، والتي يتغير فها الموقف بشكل سريع وجذري، مثل هذه البيئات إن لم يُمحض القادة والجنود بعضهم بعضاً الثقة، فإن أي إجراء لن ينجح، وأي وسيلة قتالية لن تجدي، مهما بلغت فعاليتها، أو أثرها، إن رائد قادة هذه المعركة مع جنودهم المثل القائل( ودي حريص ولا توصيه ) . 

  1. التدابير القيادية الملائمة : 

فلكل موقف تدبير، ولكل معركة ضوابط، ولكل اشتباك قواعد، فإن لم تتلائهم هذه التوصيات وتلك التدابير مع ما يواجهه الجنود من مواقف ومخاطر، فإن الأكلاف ستزيد، والمُدد ستطول، والصمود لن يكون، لذلك فإن قرائن حسن التدابير، تراه في نتائج الفعل، وسلامة الأداء. 

  1. البعد عن الانفعال والتفكير برأس بارد : 

وهذا ما ينفع القائد بعد معية الله ومن ثم كفاءته وحسن بطانته، أن يكون ذا رأس (بارد)، لا يتصرف بنفعال، ولا يُقدم على إجراء تحت ضغط الوقت، إنه متحكم في فعله، فيتصرف عندما هو يريد أن يتصرف، ولا يدع خصمه (يحشره) في مربع رد الفعل الذي يُفقد التوازن، فتختل القرارات، لتفشل بعدها الإجراءات. 

  1. الاستعداد لتحمل المخاطر ودفع الأكلاف : 

عند الجميع؛ عند القائد قبل المقاتل، عند إبن الحي والحارة قبل قائد الفصيل والكتيبة، فهاهم قادة المقاومة في غزة، كلهم قد نال من الشهادة شرف، فهذا بابنه، وذاك بزوجه، وآخر بأحد من عائلته، دون أن ترف لهم جفون، أو تَهن لهم عزائم، فلا يُنتج الصمود سوى القدرة على تحمل الأكلاف والاستعداد لمواجهة المخاطر . 

  1. حلفاء صادقون، ومؤيدون مواكبون: 

في الداخل؛ ممثلين بالحاضنة الشعبية، وفي الخارج بأبناء الأمة من شتى مللها وأعراقها، ودول وأحزاب، واكبت وما زالت تواكب، قدمت وما زالت تقدم ـــ حتى لو سجلت ملاحظة هنا، أو انتقاد هناك ــ فآلة قتل العدو المحتل، على شدة بأسها، وفظاعة جرائمها وتدميرها، إلّا أنها تلاحظ هذا الحراك، وتحسب حساباً لهذا الدعم، فتلحظه في قراراتها، وتحسب حساباً له في إجراءاتها، حتى ولو قل.  

هذه بعض المفاتيح التي تساعد في فهم كيف قاتلت غزة فصمدت؛ قد يُختلف على بعضها، وقد يتفق على مجملها. لكن إجمال الموقف يقول: أن غزة أرادت ففعلت، ولا نامت أعين الجبناء. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023